فصل: (سورة الأحزاب: الآيات 45- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة الأحزاب: آية 40]:

{ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)}.
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ أي لم يكن أبا رجل منكم على الحقيقة، حتى يثبت به وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح وَلكِنْ كان رَسُولَ اللَّهِ وكل رسول أبو أمّته فيما يرجع إلى وجوب التوقير والتعظيم له عليهم. ووجوب الشفقة والنصيحة لهم عليه، لا في سائر الأحكام الثابتة بين الآباء والأبناء، وزيد واحد من رجالكم الذين ليسوا بأولاده حقيقة، فكان حكمه حكمكم، والادعاء والتبني من باب الاختصاص والتقريب لا غير وَكان خاتَمَ النَّبِيِّينَ يعنى أنه لو كان له ولد بالغ مبلغ الرجال لكان نبيا ولم يكن هو خاتم الأنبياء، كما يروى أنه قال في إبراهيم حين توفى. لو عاش لكان نبيا. فإن قلت: أما كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم؟ قلت: قد أخرجوا من حكم النفي بقوله مِنْ رِجالِكُمْ من وجهين، أحدهما: أنّ هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال. والثاني: أنه قد أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم. فإن قلت: أما كان أبا للحسن والحسين؟ قلت: بلى ولكنهما لم يكونا رجلين حينئذ، وهما أيضا من رجاله لا من رجالهم، وشيء آخر: وهو أنه إنما قصد ولده خاصة، لا ولد ولده، لقوله تعالى: {وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} ألا ترى أن الحسن والحسين قد عاشا إلى أن نيف أحدهما على الأربعين والآخر على الخمسين. قرئ. ولكن رسول اللّه بالنصب، عطفا على أَبا أَحَدٍ وبالرفع على: ولكن هو رسول اللّه. ولكنّ، بالتشديد على حذف الخبر، تقديره: ولكنّ رسول اللّه من عرفتموه، أي: لم يعش له ولد ذكر. وخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى الطابع وفاعل الختم. وتقوّيه قراءة ابن مسعود: ولكنّ نبيا ختم النبيين. فإن قلت: كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء أنه لا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبئ قبله، وحين ينزل ينزل عاملا على شريعة محمد، مصليا إلى قبلته، كأنه بعض أمّته.

.[سورة الأحزاب: الآيات 41- 42]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)}.
اذْكُرُوا اللَّهَ أثنوا عليه بضروب الثناء من التقديس والتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله، وأكثروا ذلك بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي في كافة الأوقات قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:
ذكر اللّه على فم كل مسلم. وروى في قلب كل مسلم. وعن قتادة: قولوا سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر ولا حول ولا قوّة إلا باللّه العلىّ العظيم، وعن مجاهد: هذه كلمات يقولها الطاهر والجنب. والفعلان، أعنى اذكروا وسبحوا موجهان إلى البكرة والأصيل، كقولك: صم وصلّ يوم الجمعة، والتسبيح من جملة الذكر، وإنما اختصه من بين أنواعه اختصاص جبريل وميكائيل من بين الملائكة، ليبين فضله على سائر الأذكار، لأن معناه تنزيه ذاته عما لا يجوز عليه من الصفات والأفعال، وتبرئته من القبائح. ومثال فضله على غيره من الأذكار فضل وصف العبد بالنزاهة من أدناس المعاصي، والطهر من أرجاس المآثم، على سائر أوصافه من كثرة الصلاة والصيام، والتوفر على الطاعات كلها، والاشتمال على العلوم، والاشتهار بالفضائل. ويجوز أن يريد بالذكر وإكثاره: تكثير الطاعات، والإقبال على العبادات، فان كل طاعة وكل خير من جملة الذكر، ثم خص من ذلك التسبيح بكرة وأصيلا وهي الصلاة في جميع أوقاتها لفضل الصلاة على غيرها. أو صلاة الفجر والعشاءين، لأنّ أداءها أشقّ ومراعاتها أشدّ.

.[سورة الأحزاب: الآيات 43- 44]:

{هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)}.
لما كان من شأن المصلى أن ينعطف في ركوعه وسجوده استعير لمن ينعطف على غيره حنوّا عليه وترؤفا. كعائد المريض في انعطافه عليه، والمرأة في حنوّها على ولدها، ثم كثر حتى استعمل في الرحمة والترؤف ومنه قولهم: صلى اللّه عليك، أي ترحم عليك وترأف. فإن قلت: قوله هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ إن فسرته بيترحم عليكم ويترأف، فما تصنع بقوله: وَمَلائِكَتُهُ وما معنى صلاتهم؟ قلت: هي قولهم: اللهم صل على المؤمنين، جعلوا لكونهم مستجابى الدعوة كأنهم فاعلون الرحمة والرأفة. ونظيره قوله: حياك اللّه، أي أحياك وأبقاك، وحييتك، أى:
دعوت لك بأن يحييك اللّه، لأنك لاتكالك على إجابة دعوتك كأنك تبقيه على الحقيقة، وكذلك: عمرك اللّه، وعمرتك، وسقاك اللّه، وسقيتك، وعليه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} أي ادعوا اللّه بأن يصلى عليه. والمعنى: هو الذي يترحم عليكم ويترأف: حيث يدعوكم إلى الخير ويأمركم بإكثار الذكر والتوفر على الصلاة والطاعة {لِيُخْرِجَكُمْ} من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة {وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} دليل على أنّ المراد بالصلاة الرحمة.
ويروى أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} قال أبو بكر رضى اللّه عنه: ما خصك يا رسول اللّه بشرف إلا وقد أشركنا فيه، فأنزلت تَحِيَّتُهُمْ من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: يحيون يوم لقائه بسلام، فيجوز أن يعظمهم اللّه بسلامه عليهم، كما يفعل بهم سائر أنواع التعظيم، وأن يكون مثلا كاللقاء على ما فسرنا. وقيل: هو سلام ملك الموت والملائكة معه عليهم وبشارتهم بالجنة. وقيل: سلام الملائكة عند الخروج من القبور. وقيل: عند دخول الجنة، كما قال: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} والأجر الكريم: الجنة.

.[سورة الأحزاب: الآيات 45- 46]:

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَداعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجًا مُنِيرًا (46)}.
شاهِدًا على من بعثت إليهم، وعلى تكذيبهم وتصديقهم، أي: مقبولا قولك عند اللّه لهم وعليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم. فإن قلت: وكيف كان شاهدا وقت الإرسال، وإنما يكون شاهدا عند تحمل الشهادة أو عند أدائها؟ قلت: هي حال مقدرة، كمسئلة الكتاب:
مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي: مقدرا به الصيد غدا، فإن قلت: قد فهم من قوله: إنا أرسلناك داعيا: أنه مأذون له في الدعاء، فما فائدة قوله بِإِذْنِهِ؟ قلت: لم يرد به حقيقة الإذن، وإنما جعل الإذن مستعارا للتسهيل والتيسير، لأن الدخول في حق المالك متعذر، فإذا صودف الإذن تسهل وتيسر، فلما كان الإذن تسهيلا لما تعذر من ذلك، وضع موضعه، وذلك أن دعاء أهل الشرك والجاهلية إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة والتعذر، فقيل: بإذنه، للإيذان بأن الأمر صعب لا يتأتى ولا يستطاع إلا إذا سهله اللّه ويسره، ومنه قولهم في الشحيح: أنه غير مأذون له في الإنفاق، أي: غير مسهل له الإنفاق لكونه شاقا عليه داخلا في حكم التعذر. جلى به اللّه ظلمات الشرك واهتدى به الضالون، كما يجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به. أو أمدّ اللّه بنور نبوّته نور البصائر، كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار. وصفه بالإنارة لأن من السراج ما لا يضيء إذا قل سليطه ودقت فتيلته. وفي كلام بعضهم: ثلاثة تضيء: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظر لها من يجيء. وسئل بعضهم عن الموحشين؟ فقال: ظلام ساتر، وسراج فاتر. وقيل: وذا سراج منير. أو وتاليا سراجا منيرا. ويجوز على هذا التفسير أن يعطف على كاف أَرْسَلْناكَ.

.[سورة الأحزاب: آية 47]:

{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47)}.
الفضل: ما يتفضل به عليهم زيادة على الثواب، وإذا ذكر المتفضل به وكبره فما ظنك بالثواب. ويجوز أن يريد بالفضل: الثواب، من قولهم للعطايا: فضول وفواضل، وأن يريد أنّ لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم، وذلك الفضل من جهة اللّه، وأنه آتاهم ما فضلوهم به.

.[سورة الأحزاب: آية 48]:

{وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)}.
وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ معناه: الدوام والثبات على ما كان عليه. أو التهييج أَذاهُمْ يحتمل إضافته إلى الفاعل والمفعول. يعنى: ودع أن تؤذيهم بضرر أو قتل، وخذ بظاهرهم، وحسابهم على اللّه في باطنهم. أو: ودع ما يؤذونك به ولا تجازهم عليه حتى تؤمر، وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: هي منسوخة بآية السيف وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فإنه يكفيكهم، وكفى به مفوّضا إليه، ولقائل أن يقول: وصفه اللّه بخمسة أوصاف، وقابل كلا منها بخطاب مناسب له، قابل الشاهد بقوله: وبشر المؤمنين، لأنه يكون شاهدا على أمته وهم يكونون شهداء على سائر الأمم، وهو الفضل الكبير والمبشر بالإعراض عن الكافرين والمنافقين، لأنه إذا أعرض عنهم أقبل جميع إقباله على المؤمنين، وهو مناسب للبشارة والنذير بدع أذاهم، لأنه إذا ترك أذاهم في الحاضر- والأذى لابد له من عقاب عاجل أو آجل- كانوا منذرين به في المستقبل، والداعي إلى اللّه بتيسيره بقوله وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لأنّ من توكل على اللّه يسر عليه كل عسير، والسراج المنير بالاكتفاء به وكيلا، لأن من أناره اللّه برهانا على جميع خلقه، كان جديرا بأن يكتفى به عن جميع خلقه.

.[سورة الأحزاب: آية 49]:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلًا (49)}.
النكاح: الوطء، وتسمية العقد نكاحا لملابسته له، من حيث أنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثما، لأنها سبب في اقتراف الإثم، ونحوه في علم البيان قول الراجز:
أسنمة الآبال في سحابه

سمى الماء بأسنمة الآبال، لأنه سبب سمن المال وارتفاع أسنمته، ولم يرد لفظ النكاح في كتاب اللّه إلا في معنى العقد، لأنه في معنى الوطء من باب التصريح به. ومن آداب القرآن: الكناية عنه بلفظ الملامسة والمماسة والقربان والتغشى والإتيان. فإن قلت: لم خصّ المؤمنات والحكم الذي نطقت به الآية تستوي فيه المؤمنات والكتابيات؟ قلت: في اختصاصهنّ تنبيه على أن أصل أمر المؤمن والأولى به: أن يتخير لنطفته، وأن لا ينكح إلا مؤمنة عفيفة، ويتنزه عن مزاوجة الفواسق فما بال الكوافر، ويستنكف أن يدخل تحت لحاف واحد عدوة اللّه ووليه، فالتي في سورة المائدة: تعليم ما هو جائز غير محرّم، من نكاح المحصنات من الذين أوتوا الكتاب.
وهذه فيها تعليم ما هو الأولى بالمؤمنين من نكاح المؤمنات. فإن قلت: ما فائدة ثم في قوله ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ؟ قلت: فائدته نفى التوهم عمن عسى يتوهم تفاوت الحكم: بين أن يطلقها وهي قريبة العهد من النكاح، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ويتراخى بها المدة في حبالة الزواج ثم يطلقها: فإن قلت: إذا خلا بها خلوة يمكنه معها المساس، هل يقوم ذلك مقام المساس؟
قلت، نعم عند أبى حنيفة وأصحابه حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس، وقوله فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ دليل على أن العدة حق واجب على النساء للرجال تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها، من قولك: عددت الدراهم فاعتدها، كقولك. كلته فأكتاله، ووزنته فاتزنه. وقرئ: تعتدونها، مخففا، أي: تعتدون فيها كقوله:
ويوم شهدناه

والمراد بالاعتداد ما في قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرارًا لِتَعْتَدُوا}. فإن قلت: ما هذا التمتيع أواجب أم مندوب إليه؟ قلت إن كانت غير مفروض لها كانت المتعة واجبة، ولا تجب المتعة عند أبى حنيفة إلا لها وحدها دون سائر المطلقات، وإن كانت مفروضا لها، فالمتعة مختلف فيها: فبعض على الندب والاستحباب، ومنهم أبو حنيفة. وبعض على الوجوب سَراحًا جَمِيلًا من غير ضرار ولا منع واجب.

.سورة الأحزاب: الآيات 50- 51:

{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)}.
{أُجُورَهُنَّ} مهورهنّ، لأنّ المهر أجر على البضع. وإيتاؤها: إما إعطاؤها عاجلا. وإما فرضها وتسميتها في العقد. فإن قلت: لم قال: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} و{مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} و{اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ} وما فائدة هذه التخصيصات؟ قلت: قد اختار اللّه لرسوله الأفضل الأولى، واستحبه بالأطيب الأزكى، كما اختصه بغيرها من الخصائص، وآثره بما سواها من الأثر، وذلك أنّ تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية، وإن وقع العقد جائزا، وله أن يماسها وعليه مهر المثل إن دخل بها، والمتعة إن لم يدخل بها. وسوق المهر إليها عاجلا أفضل من أن يسميه ويؤجله، وكان التعجيل ديدن السلف وسنتهم، وما لا يعرف بينهم غيره، وكذلك الجارية إذا كانت سبية مالكها، وخطبة سيفه ورمحه، ومما غنمه اللّه من دار الحرب أحل وأطيب مما يشترى من شق الجلب.
والسبي على ضربين: سبى طيبة، وسبى خبثة، فسبى الطيبة: ما سبى من أهل الحرب. وأما من كان له عهد فالمسبى منهم سبى خبثة، ويدل عليه قوله تعالى: {مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} لأن فيء اللّه لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث، كما أنّ رزق اللّه يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من قرائبه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه. وعن أم هانى بنت أبى طالب: خطبنى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرنى، ثم أنزل اللّه هذه الآية، فلم أحلّ له، لأنى لم أهاجر معه، كنت من الطلقاء. وأحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك، ولذلك نكرها. واختلف في اتفاق ذلك، فعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: لم يكن عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحد منهنّ بالهبة. وقيل الموهوبات أربع: ميمونة بنت الحرث، وزينب بنت خزيمة أمّ المساكين الأنصارية، وأمّ شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم- رضى اللّه عنهن. قرئ: {إِنْ وَهَبَتْ} على الشرط. وقرأ الحسن رضى اللّه عنه إِنْ بالفتح، على التعليل بتقدير حذف اللام. ويجوز أن يكون مصدرا محذوفا معه الزمان، كقولك: اجلس ما دام زيد جالسا، بمعنى وقت دوامه جالسا، ووقت هبتها نفسها. وقرأ ابن مسعود بغير أن. فإن قلت: ما معنى الشرط الثاني مع الأوّل؟ قلت: هو تقييد له شرط في الإحلال هبتها نفسها، وفي الهبة: إرادة استنكاح رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها، لأنّ إرادته هي قبول الهبة وما به تتم. فإن قلت: لم عدل عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: {نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ} ثم رجع إلى الخطاب؟ قلت: للإيذان بأنه مما خص به وأوثر، ومجيئه على لفظ النبي للدلالة على أن الاختصاص تكرمة له لأجل النبوّة، وتكريره تفخيم له وتقرير لاستحقاقه الكرامة لنبوته. واستنكاحها: طلب نكاحها والرغبة فيه، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة: لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأمّته سواء في الأحكام إلا فيما خصه الدليل، وقال الشافعي: لا يصح، وقد خص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بمعنى الهبة ولفظها جميعا لأنّ اللفظ تابع للمعنى، والمدعى للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى دليل. وقال أبو الحسن الكرخي: إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز، لقوله تعالى: {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} وقال أبو بكر الرازي: لا يصح، لأنّ الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان خالِصَةً مصدر مؤكد، كوعد اللّه، وصبغة اللّه، أي: خلص لك إحلال ما أحللنا لك خالصة، بمعنى خلوصا، والفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين، كالخارج والقاعد، والعافية والكاذبة. والدليل على أنها وردت في أثر الإحلالات الأربع مخصوصة برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على سبيل التوكيد لها قوله: {قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ في أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} بعد قوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وهي جملة اعتراضية، وقوله: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} متصل بخالصة لك من دون المؤمنين، ومعنى هذه الجملة الاعتراضية أنّ اللّه قد علم ما يجب فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء، وعلى أي حدّ وصفة يجب أن يفرض عليهم ففرضه، وعلم المصلحة في اختصاص رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بما اختصه به ففعل ومعنى {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} لئلا يكون عليك ضيق في دينك: حيث اختصصناك بالتنزيه واختيار ما هو أولى وأفضل، وفي دنياك: حيث أحللنا لك أجناس المنكوحات وزدنا لك الواهبة نفسها. وقرئ: خالصة، بالرفع، أي: ذاك خلوص لك وخصوص من دون المؤمنين ومن جعل خالصة نعتا للمرأة، فعلى مذهبه: هذه المرأة خالصة لك من دونهم وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا للواقع في الحرج إذا تاب رَحِيمًا بالتوسعة على عباده. روى أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة وغظن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، هجرهنّ شهرا، ونزل التخيير، فأشفقن أنّ يطلقهنّ، فقلن: يا رسول اللّه، افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت. وروى أن عائشة رضى اللّه عنها قالت: يا رسول اللّه إنى أرى ربك يسارع في هواك. اهـ.